صحف ومواقعمقابلات
مي الخليل: بالإيمان تخطيت الانهيار
جريدة الخليج
17 نوفمبر/ تشرين الثاني 2001 تاريخ محفور في الذاكرة بلون الدم . تقاطع فيه الموت مع الحياة وتشابكت معه خطوط اليأس مع الرجاء . وبات الأمل أشبه بضوء شمعة هزيل ابتلعته ستائر ليل داكنة السواد . صعب هو انتصار الحياة في مشهد غابت عنه كل ملامح الحياة . جسد هاجمته حافلة خرجت عن السيطرة لتطاردني تلك الحافلة المسعورة وتحشرني بين عجلاتها وذلك الجدار السميك وتطحن لحمي وعظامي ويتحول معها جسدي إلى عجينة حمراء لا شيء فيها ينبض بالحياة
نصف ساعة أو ما يزيد ملقاة في البرد والعراء يغسل دمي النازف بغزارة مفارق الطرقات . لا فرصة للنجاة ولا حتى واحد في المائة، لكنها إرادة الله قدرت ولطفت ومنحتني معجزة العودة إلى الحياة .
لم يهبني الله سبحانه الحياة فقط من جديد، بل أعاد لي كذلك لياقتي البدنية وقدرتي على المشي لأحتل موقعي اليوم كرئيسة لجمعية بيروت ماراثون ولأخوض من خلالها سباقات عالمية وأحصد الجوائز وشهادات التقدير، وبالتالي لأضع لبنان في مصاف الدول العالمية من خلال هذه الرياضة الرائعة التي عشقتها ونذرت حياتي لها لحظت كتبت لي الحياة
من أين أبدأ حكايتي الحافلة في محطات التحدي والكفاح التي توازي ما تختزنه روحي من طاقات تجاوزت في معظمها حدود المكان وتخطت المألوف؟ نعم، عشت في ظل مجتمع تقليدي محكوم بالأعراف والعادات، والتي تشكل ألوانها أحلام الصبايا وتضع لها الخطوط والأبعاد . لكني أنا ميّ الخليل ابنة عاليه، تلك البلدة الرائعة الجميلة كانت أحلامي أكبر من حصن المكان وإن لم تكن خطوطها محكومة بسقف أو حدود أو مشروطة بخيارات وأمنيات
هنا في حضن الجبل ولدت طفلة مشاكسة لأسرة مترابطة تشع دفئاً وحبّاً وحياة، فأبي يوسف الفقيه كان متعهد أشغال ناجحاً ومعروفاً . وأمي وداد تلك المرأة النابضة بالحنان التي توفيت منذ سنتين نجحت في أن تجعل من أبنائها الأربعة وجوهاً فاعلة ومنتجة في مجتمعنا، وربما الأهم من ذلك أنها ضخت في عروقنا أجمل مشاعر الحب والتسامح . ذلك النبض الذي لا يهزمه حقد أو كراهية، ولا يقف في وجهه مستحيل . كنت الطفلة الثالثة بين أربعة أطفال، ربما حضن الأسرة الدافئ منح طفولتي سلاحاً وطمأنينة وثقة طبعت شخصيتي كطفلة مشاكسة دائمة الحركة والتحفز والتعطّش للمعرفة واكتشاف الجديد . ورغم أنني نشأت في محيط اجتماعي محدود إلا أن طموحاتي كانت أكبر من هذا المحيط حتى أن ضجيجها في عروقي كان يشدني باستمرار إلى عوالم خارج حدود المكان، إن لم أقل أيضاً الزمان . طاقات هائلة جعلتني مسكونة أبداً بصخب الحركة وضجيجها، فجمعت بين شقاوة الصبيان وأنوثة الفتيات، ذلك المزيج الذي طبع شخصيتي وميزها عن بنات جيلي آنذاك . لم أحلم ببيت صغير وحضن دافئ فقط ولم أرسم مستقبلي داخل جدران جامعة أو اختصاص علمي محدد . ولم تكن الشهادات العليا هي أقصى ما أطمح للوصول إليه، في وقت تنوعت فيه أحلام الصبايا ما بين روب المحاماة أو الطبيبة أو حتى المهندسة والصيدلانية، أو أن تحتلّ صورهن أغلفة المجلات وشاشات التلفزة
كان لي حلمي الخاص والذي منحني جرأة الاندفاع والسعي لتحقيق الذات جنباً إلى جنب مع الاحتفاط بخصائص الأنثى . لم أنس لحظة وسط سعيي الدائم لإثبات وجودي، أنني امرأة . هذا التكامل منحني دائماً إحساساً بالرضى والسعادة . وربما كان من أهم أسباب نجاحي وتميّزي . لم أقتنع لحظة بأن دوري كأنثى يقتصر على حدود الزواج والإنجاب . ثمة حوافز وطاقات لم تكن متبلورة حينها أو واضحة، لكنها كانت تدفعني دائماً إلى التحليق بحثاً عن نقطة ارتكاز يتبلور معها حلمي والذي لا أعرف تماماً إلى أين سيأخذني، وإن كنت أدرك أن هذا الحلم مشحون بطاقات إيجابية كبيرة ولها مردودها الإنساني والاجتماعي . فقد تملكتني وأنا طفلة، الرغبة العارمة في مساعدة الآخرين ومنها كنت أشعر بسعادة وفرح عظيمين، حتى إذا ما بدأت أخطو أولى خطواتي نحو الصبّا في أواخر ستينات القرن الماضي تقريباً، شكلت القضية الفلسطينية انعطافة كبيرة في حياتي واحتلت تفكيري حتى باتت هاجسي الوحيد . فكرت في الالتحاق حينها في صفوف الفدائيين . أولئك الثوار الذين تربعوا آنذاك على عرش القلوب واحتلوا موقع الصدارة في الحدث ومنحوا القضية مذاق الانتصار والبطولة . فرسان بعمر الورود يعيدون إلى فلسطين موقعها على الخريطة ويضخون في عروقها نبض النضال، ويرسمون بخطاهم نحوها آفاق مستقبل يزهو بإشراقة الأمل وحقيقة الانتصار . اندفعت بكل طاقاتي نحو القضية الفلسطينية أتابع أخبارها بنهم . أشارك شعبها معاناته وأثور لهذا الظلم الذي لحق به على مرأى العالم ومسامعه . وحين حسمت خياراتي وقررت الالتحاق بصفوف ثوارها ووجهت بمعارضة الأهل لهذا الخيار، حيث لم يكن مألوفاً آنذاك التحاق الفتيات بصفوف الفدائيين إلا ما ندر، إضافة إلى أنني كنت لا أزال في عمر المراهقة . فخضعت لرغبة الأهل وإن لم يخضع قلبي، إذ بقيت القضية تحتل الجزء الأكبر من تفكيري ومشاعري ولا تزال حتى اللحظة
لم أستطع بلورة خطوط حياتي واختيار مساراتها حتى العام ،1972 هذا التاريخ وضعني على الطريق في أول محطات التحدي الحقيقي في حياتي، راسماً ومحدداً اشاراتها، التي بدأت باختياري ملكة جمال عاليه في مسابقة تقليدية لملكات الجمال قررت أن أخوضها تلك السنة . تصدرت صوري أغلفة المجلات وكان أن لفتت أنظار شقيقة فيصل الذي أصبح زوجي في ما بعد . كان فيصل حينها يقيم في نيجيريا . كان رجل أعمال ناجحاً ومعروفاً وعازباً من الطائفة الدرزية، حيث جرت العادة أن تتزوج من محيطها، فكان أن اغتنمت شقيقة فيصل حضوره إلى لبنان فدعتني وأهلي في أحد الصباحات لتناول فنجان القهوة ودون أن أعرف ما وراء تلك الدعوة، استجاب فيصل لخطوة شقيقته رغم عدم ارتياحه للفكرة كوسيلة تقليدية للارتباط، فهو كرجل أعمال مثقف كان يفضل اختيار شريكته بأسلوب آخر . وربما هذا أيضاً ما كنت أفكر فيه بدوري، لكن القدر شاء أن يجمعنا بطريقته الخاصة والتي اتخذت طابعاً أسرياً حميماً حول فنجان قهوة لم يجمع الأسرة فقط، بل جمعني وفيصل أيضاً بمشاعر دافئة قرّبت المسافة ما بيننا وأزالت حواجز الرهبة وربما الرفض فبدا كل منّا على طبيعته فاحتلّ من الآخر موقعه الطبيعي في القلب والعقل معاً
بدأ اللقاء محاطاً بالهيبة وانتهى بالقبول، وعلى وعد بلقاءات أخرى رسخت مكانة كل منا لدى الآخر، حتى إذا مضت شهور قليلة لا تتجاوز السبعة، قررنا الزواج رسمياً وفي التاسع من مايو/ ايار ،1975 كان حفل زفافنا في قاعة فندق السان جورج في بيروت هو آخر حفل يشهده ذلك الفندق، إذ بدأت بعده مباشرة حرب الفنادق التي استهدفت أشهر فنادق العاصمة آنذاك على خطوط التماس وأخضعتها لنيران وقذائف الإخوة الأعداء وحوّلتها إلى متاريس لمقاتليهم . وبزواجي من فيصل غادرت مرحلة الطفولة إلى النضج وبلورة شخصيتي الحقيقية والتي ساعدني زوجي على اكتشافها ودعمها وبنائها باحتضانه الدائم وتفهمه ودعمه
فيصل رجل حياتي زوجي وأخي وصديقي ووالد أبنائي الأربعة ورفيق دربي وسندي في كل محطات التحدي في حياتي . أمسك بيدي لأرتحل معه مخلّفة ورائي وطناً وأسرة ووجوهاً حفرت ملامحها على جدران قلبي وليس في عيني فقط . لم يكن سهلاً أن أغادر حضن الأهل إلى عالم جديد ومختلف بكل المقاييس لأجد نفسي فجأة أمام مسؤولية كبيرة ليست هي الزواج وتأسيس الأسرة فقط، وإنما الحياة بعيداً عن الأهل وفي مجاهل الغربة وبين مجتمع جديد ومختلف تماماً، لكنه فيصل الرجل العظيم الذي تفهم مشاعري وأدرك عمق قلقي وخوفي عمد إلى طمأنتي وتحفيز كل طاقات القوّة داخلي . منحني ثقة جعلتني أقف على أول الطريق متخطية كل عوامل القلق والتردد
ربما حبه الكبير، وربما إيمانه بالطاقات الكامنة في داخلي، وربما بما يمتلكه من مقومات الرجولة والحنان أو هو كل هذه المواصفات جميعاً مكنني من كل ذلك .
لم يكن العمل وحده عالمي الوحيد، فثمة أنشطة وهوايات أخرى رائعة قمت بها وتعلمتها في نيجيريا ومارستها بشغف فساعدت على تأقلمي ومواجهتي لتحديات الغربة، ربما من بينها رياضة ركوب الخيل والتنس والتي انتقلت منها إلى رياضة، الايروبيك فاتقنتها والتزمت ممارستها دورياً وبدأت بتعليمها للنساء في نيجيريا من دون مقابل مادي . تلك الرياضة منحتني تناسقاً وليونة وقدرة على المشي، ومعها بدأت اكتشاف شغفي برياضة الركض لتصبح حلمي الذي رحت أسعى لتحقيقه بكل طاقاتي بعدما صار مشروع حياتي . بدأت معه في المشاركة في مسابقات الركض العربية والعالمية حتى عدت إلى الوطن عام 1999 حيث كان موعدي مع القدر
لم تكن هذه السباقات التي خضتها بنجاح هي نهاية التحدي، كذلك لم تكن نهاية الاغتراب هي المحطة الأخيرة في مشوار التحدي، فثمة تحد أكثر قسوة كان في انتظاري مترصداً لحظة المواجهة، مختاراً بنفسه وبلا رأفة سلاحه وتوقيته وادواته، فكان ذلك اليوم العاصف والممطر مع بداية فصل الشتاء في السابع عشر من نوفمبر/تشرين الثاني 2001 حيث كنت حينها أتحضر لسباق ماراثون دبي . في ذلك الصباح البارد والعاصف أحسست بثقل يشدني إلى السرير وبكسل عجيب مفاجئ ورغبة عارمة في البقاء في الفراش، وكأنما البرق والرعد يهمسان في أذني لأبقى في السرير، لكن موعدي مع القدر كان قد حان وقته، تركت سريري ونهضت مسرعة لأرتدي ملابس الركض في لقاء غير محسوب مع قدر لا يرحم كان ينتظرني على مفرق جونيه، كان المطر غزيراً وكانت السيول تغسل الشوارع ووحدي أركض غير عابئة ببرد أو رياح . وعند مفرق جونيه داهمتني تلك الحافلة التي تعطلت كوابحها وخرجت عن السيطرة . دفعتني باتجاه الحائط وعصرت جسدي بينها وبين ذلك الحائط من دون إنذار مسبق إذ لم يطلق السائق تحذيراً لي، لا عبر بوق الحافلة ولا أضوائها . كان صامتاً ومفاجئاً صمت القدر الذي شاء أن يبقيني لأكثر من نصف ساعة جثة نازفة إلى جانب حائط اصطبغ لونه بدمي كما الأرض، لا أحد يمكن أن يصدق أن أشلاء هذه المرأة لا تزال تتنفس الحياة، كما أنه لا أحد يمكن أن يصدق أنني سأجتار نفق الموت هذا وأعبر إلى ضفاف الحياة من جديد . وحدي فقط كنت أشعر بأن ثمة حياة ونفساً وأيضاً رجاء . هكذا هو المؤمن أبداً لا يغادره الرجاء . لم يكن الأطباء على اختلاف مواقعهم وتخصصاتهم ليمنحونا الأمل بالشفاء، فهذا أكبر من معجزة وأشد تعقيداً من براعة الأطباء والجراحين ومهارة ذوي الاختصاص، كان حوضي قد تحطم تماماً، وتهشمت عظام جسدي بمعظمها، إضافة إلى النزف الشديد ولمدة طويلة ومع هذا وبعد أكثر من ست وثلاثين عملية جراحية ما بين مستشفى سيدة لبنان في جونيه ومستشفيات أوروبية، وبعد سنتين من العلاج المتواصل وسبعة أشهر من الجلوس على كرسي متحرك منحني الله نعمة الشفاء، لم أفقد الأمل لحظة ولم تغادرني تلك الطاقات ولم يحطم إرادتي الحادث كما حطم جسدي . لا أعلم كيف ومن أين اجتاحتني تلك الرغبة العارمة وذلك الإصرار على العودة للحياة من جديد . وبهدف جديد ولد معي وأنا في غرفة الطوارئ ما بين الموت والحياة، أصارع بعناد وشراسة لحظة قررت تأسيس ماراثون بيروت إذا كتبت لي الحياة
– See more at: http://www.alkhaleej.ae/supplements/page/7f8d4783-d122-4f95-8d83-18e51f6bfb74#sthash.9PVyJS6g.dpuf